نهلة من سراج وهاج (قصة قصيرة) .بقلم : الأديب الشاعر.هاني زريفة

نهلةٌ من سرابٍ وهَّاجٍ
قصة قصيرة:
كنتُ أعلم – منذ البداية – بأنه متزوج، وله أولاد، وبأنه أكبر مني بعشرين عاما"؛ ولكن شيئاً جميلاً قاهراً يشدني إليه، كفراشة تشتهي أن تفرد جناحيها فوق نار شمعة!
لم يكن يعيرني الاهتمام الذي أنشد، جل أحاديثه كانت عن الوطن والمؤامرة والحرب والحصار، وإذا ما شطح بخياله بعيداً، كان يتحدث عن بيته وأسرته للحظات، ليعود من جديد إلى سياق الحديث الدائم، كان يحمل وطنه وبيته فوق كاهله!... كل ما يقوله صحيح، ولكن لا تزال في داخلنا جذوة من حياة، وعلينا أن نمنحها الهواء لتتقد، أليس استمرارنا في الحياة من مقومات الصمود؟!
كلما أعرض عني ازددت تعلقاً به!...
باشر تدريبي، وبقدر ما كنت حريصة أن أثبت له جدارتي، بقدر ما كنت أحاول جذبه إلي، ولكنه كان وقوراً كجبل، صلباً كجدار، وكان حريصاً على أن يترك بيني وبينه مسافة أمان، مهما حاولت! وإذا ما حاصرته، وأطبقت عليه بأنوثتي، كان يقفز كمن لسعته نحلة!... يخرج لفافة تبغ وولاعة، ويمضي خارج الغرفة، وقد اصطبغ وجهه خجلاً!
قذفتنا الحرب إلى هنا... أهلي بعضهم ودَّع، وبعضهم لا أعلم عنه شيئاً... وفي غمرة بحثي عن الدفء والحنان... عن الإنسان... تعلقت به، وأصبحت عيناه موئلي... ليس لي من أحد سواه!...
زدت عنايتي بأنوثتي، وزدت عنايتي به، وشيئاً فشيئاً استطعت أن أطيل فترة تدريبه لي، قبل أن يصطبغ وجهه، ويخرج بلفافته، واستطعت أن أقصر – ولو قليلاً – مسافة الأمان بيني وبينه، وتمرست في فنون محاصرته والاستحواذ عليه، ولكنه رغم كل ذلك، لا يزال كمهر جامح!..
استشفُّ في صوته الحب والوجد، واستشف في عينيه التناقض والارتباك والحيرة، إنه يعيش صراعاً، ولن يستطيع الصمود طويلاً!...
لليوم الثالث على التوالي اعتذر عن تدريبي، وقال بأنه مرهق، ولا يستطيع التركيز! كان واجماً حزيناً شارداً... كثير الذهاب والإياب، كثير التدخين... تتصارع في رأسه براكين! وكنت كمن دخلت مراهنة ستخسر فيها كل شيء.. كأن الأرض ستنشق لتبتلعني... ماذا حدث للرجل... وما هذا الصراع الذي يعيشه؟!
كتب على صفحته على الفيس بوك: (أكره أن أجرح شعور أحد، ولكن على الآخرين أن يعلموا أين تنتهي حقوقهم، وأين تبدأ واجباتهم!)!
فعلقت على حالته: (ليس كل ما في الحياة حقوق وواجبات، فليس لنهر أن يمنع ماءه عن ظامئ، وليس لزهرة أن تبخل برحيقها على نحلة، وليس لشمعة أن تصد فراشة تعشق النور)!
في آخر مرة دربني فيها، كاد يدخل في اللعبة، فاستطعت أن أقصر مسافة الأمان حتى كادت تضمحل، وأصبح في عينيه بريق، وفي يديه رعشة وارتباك!... ولكنه حين استعاد رشده قفز كالمجنون، وسمعته يهمس: استغفر الله!... استغفر الله!... وخرج بلفافته ولم يقترب مني بعد ذلك!
اليوم كتب على صفحته: (إنَّ من يسعى إلى حب بلا زواج، كمن ينشد نهلة ماء من سراب وهاج!).
فعلقت قائلة: (الحب بلا زواج خير من اللا حب، والنهلة من سراب وهاج أعذب من أن تعب من نهر متدفق!).
وصل المستخدمون، ونقلوا طاولته من الغرفة!... فودعني ومضى، بعد أن همس في أذني قائلاً: (قريباً سَيُعلن النصرُ، وتضع الحرب أوزارها!... والمستقبل أمامك!.. أتركك بأمان الله!..).
انقطعت أنفاسي... ورميت بجسدي على الكرسي!... اللعبة لم تنتهِ بعد، وسيعلم هذا المتعجرف أنني لا بدَّ أن أحصل على النهلة التي أشتهي، ولو من سرابٍ وهَّاجٍ!... فأنا عصفورة شردتها الحرب، وليس لي من موئل سوى عينيه!
(تمت).

بقلمي: هاني زريفة
سورية
21/7/2018

تعليقات

المشاركات الشائعة

مبارك من القلب الدكتوراه الفخرية. د.عبد العزيز بن صالح بن عبدالله الدخيل.

يايها العمر .Nagwa Shafeek

حلم.بقلمي:الكاتبة زهراء الركابي✍️