قصة قصيرة (ماسح الاحذية/ بقلم الأستاذ الأديب. احمد علي صدقي من المغرب
ماسح الاحذية
اشخاص هذه القصة اقتحمتهم في حدث لم يرغبوا في أن يكونوا فيه، وكلفتهم أدوارا ما أحبوها... فكادت قصتي تنتهي عند بدايتها...
هؤلاء عندما كانوا يتناولون غداءهم بمطعم شعبي وهم من اغنياء القوم، دخل عليهم ماسح احذية بصندوقه الخشبي المتهالك، يتفقد من سيناديه منهم لخدمته فيمده ببعض دريهمات يقاوم بها متطلبات يومه...
عندما تكلم فيه أحدهم التفت اليه كل القوم. ثم منهم من سعى لطرده ومنهم من أمطره وابلا من السباب ومنهم من صعقه بنظرات ازدراء سقطت عليه كقطع ثلج جمدته في مكانه... ثم التفتوا عنه وتابع كل منهم ما كان جالس من اجله في هذا الفضاء... اندهشت أنا من امر هؤلاء الزبناء في المقاهي يصبحوا كأنهم جسد واحد... يصيحون على التلفاز في وقت واحد وينظرون لمن دخل المقهى في وقت واحد..
خلتهم يشتمونني وقد اغتبتهم... تجاهلتهم وتابعت كتابتي... إلا أني، بعد هنيهة، أحسست بضيق بالمكان فخرجت الى خارج المقهى لاسترجع نفسي ثم رجعت الى مكاني...
حدق ماسح الاحدية هو الآخر بدوره في الجميع ثم تقدم نحو رف المقهى ببطء وبصره يتجول يمنة ويسرة... ناداه واحد من الزبناء بلطف. تعجب من صفة برزت من جحيم صفات ضجرته من قبل. اتجه نحو من ناداه... ناوله هذا رجله لمسح الحذاء... بعنف قال له أحد اصدقائه: يا هذا! نحن لسنا هنا لتنظيف الأحذية ولا لشم روائح دهانها أو شم عرق مثل هذا المتشرد المتسخ. نحن خرجنا لنمتع اعيننا بما هو جميل ونتذوق ما هو لذيذ وليس لنجلس قرب متسخ تزكم رائحته انوفنا...
تعجبت لأمر هذا الرجل. فقد اقحم كلمات في دوره ما كتبتها له... وتعجبت خصوصا من نكرانه لما كان عليه من قبل... فهذا الرجل الصفيق الوجه، كان هو كذلك شبه متشرد قبل أن تصل به وقاحته بدعم من أخيه المحامي الى سدة الحكم... هذا الرجل الذي ما أن تسلطن حتى استعمل نفوده فنصب على احد اعضاء عائلته و استولي على املاكه ليجد نفسه بلا تعب أحد أغنياء المدينة...
وأنا أذيع هذه الاسرار الخطيرة عنه، خلته ينظر الي من موقعه من فوق ورقتي ويترصدني مفكرا في حيلة يهاجمني بها مستعملا سلطته ونفوده ضدي... خلته رافعا علي دعوى قدح ضده فرابحها... والذي أخافني أكثر هو أن يثور علي فيترك لي هذا الدور الذي يلعبه الآن في القصة فيختل عملي وتصبح قصتي في خبر كان...سمعته يهمهم:
لماذا تحشر انفك في ما لا يعنيك ايها الراوي؟ تابع سردك لما يحصل ولا تتدخل فيما لا يعنينك... إنك لا تعرف مع من تتعامل... فانتبه لنفسك...
تجاهلته رغم خوفي منه ومن ردة فعله العنيفة وتابعت كتابة بقية القصة...
أما الذي نادى ماسح الأحذية فقد كان هو أيضا ماسح أحذية قديما... كان يعمل كمساعد طبيب في مصحة... مرض أبوه بمرض السرطان فتعب من أجله بلا فائدة... ثم مرضت أمه كذلك بالفشل الكلوي فاضطر إلى مغادرة العمل ليتكرس لخدمة والديه لأنه كان وحيدهما... كان لهم منزل بسيط، رهنه عند عمه لكي يجد ما يداوي به المريضين... لكن بعد أيام مات أبوه، فحزنت عليه الزوجة حزنا شديدا، حز في صدرها، فتبعته بغتة بلا سابق انذار... ما استطاع الولد تسديد ديونه فاستولى، عمه المراهن، على المنزل وأصبح الولد من المتشردين...أمتهن مهنة ماسح أحذية الى ان أغناه الله حلالا من إرث ذلك العم الشرس الذي كان قد شرده.. لم يكن لهذا العم احد يرثه الا هو. كان رجلا كلالة...
نبهني ماسح الأحذية بكلام همهم به: اترك كل واحد وشأنه فالله هو الرقيب... دمع قلمي من روعة ما قاله فأسقط دمعة حبر على الورقة طمست ما كتبته من قبح عن الرجل...
نشفت ما تساقط من الحبر على الورقة وتابعت... أما الثالث فهو رجل يعيش رفقة هؤلاء بما يجودون به عليه... يعيش ملتصقا بهم كقرادة، يمتص من دم هذا ومن دم ذاك أو كذبابة فوق جلد خام نتن ...
كنت أكتب قصتي وأحس أن اشخاصها ينظرون الي بنظرات ملؤها السخط و الكراهية والحقد... كانوا غير راضين بما أسرده عنهم للقراء من أسرار لا يعرفها عنهم احد إلا أنا... فكنت أخالهم سينتفضون و يقدمون استقالة جماعية من أدوارهم في القصة احتجاجا على افشائي اسرارهم للعامة... لكن تابعت كتابتي كأن شيء لم يحدث...
جلس الماسح منهمكا في عمله والكلام حوله لم ينته بعد... قال صاحب الحذاء:
مسح الأحذية ليس عيب. فهو عمل شريف... فماسح الأحذية ينال أجره بعرق جبينه. ينقد به نفسه وأهليه من الجوع. قال الذي أزعجه حضور الماسح:
يكفيك عطفا على المتشردين يا معتوه... فهؤلاء من أراذل القوم وهم من خيبوا وجه البلد... اسكت وإلا نطقت بما لا تريد سماعه. رد عليه من يهمه الأمر:
أتريد أن تقول أنني كنت أنا أيضا متشردا وماسح أحذية؟ قلها بملء فيك ولا تخجل، فأنا اعترف بأنني كنت كذلك... ولكن حمدا لله الذي أنقدني وأوصلني لما أنا فيه الآن... أجابه الخوان بعهوده ومواثيقه والمتكبر بسلطته التي يظنها مطلقة وتمكنه من ازدراء الناس وازعاجهم والإطاحة بمآل كل من قاوم ظلمه... قال مستهزئا لمخاطبه:
هل لا زلت تتقن هذه المهنة أم انستك إياها رفاهيتك؟ أجابه: بل لا زلت اتقنها كما كنت اتقنها من قبل. قال له:
وهل تستطيع أن تمسح حذائي الآن... قال : وكم تدفع؟ أجابه: إن فعلت هذا أمام هؤلاء الحاضرين الموجودين ألآن في هذا المقهى، أمنحك خمسة آلاف درهم بلا مناقشة... قال: هيا ناولني إياها وابتعد... اخرج صاحبنا المتكبر شيكا أمضاه على القدر المطلوب واستدعى كل الحاضرين للمشاهدة ثم ناوله الشيك... شمر صاحبه على دراعيه وأخذ الأدوات من عند الماسح وبدأ عمله. كان يصقل الحذاء بحركات بهلوانية وخفة ورشاقة أذهلت كل الحاضرين. وبالخصوص صاحب الأدوات الذي أخذ يضحك ويصفق ويقفز فرحا أنه وجد من خفف عنه عبئا كان يثقل كاهله و يجعله مطأطأ الرأس دائما أمام الناس... مهنته كماسح. هذه المهنة التي ينظر إليها الكل باحتقار واشمئزاز... انتهى من عمله... صفق له الحاضرون وقد أراهم جمالية عمل مسح الأحذية رغم بخسه... جر إليه الطفل ماسح الأحذية وقدمه الى أمام الحاضرين الذين كونوا حلقة حول طاولة الأحداث، و قبَّل رأسه... ناوله ثمن عمله ثم رفع يده الى الأعلى و قال له: كن شجاعا وارْضَ بعملك واتقنه يغنيك الله به... ثم تناول حقيبته... فتحها... اخرج منها قدرا من المال، ثم رفعها هي و الشيك الى اعلى وقال لماسح الأحذية: خذ هذه الأموال فهي لك، واذهب واصرفها في مشروع فقد أغناك الله... رمى الولد بأدوات مهنة لم يرض بها يوما وقد امتهنها سنين... رمى بالصندوق خارج المقهى و خرج يجري الى حيث تنتظره عائلته.. اتجهت الأنظار نحوي بعد مغادرته المقهى.. بقيت لوحدي كبؤرة لعيون المتكبر وماسح الاحذية قديما والقرادة و زبناء المقهى... نظرت الى الجميع التفتوا الى جهة التلفاز ونحو كؤوس مشروباتهم.. ولكي لا أبقى محبوسا تحت انظارهم، وضعت نقطة نهاية للقصة و رفعت قلمي وعيني عن الورقة وقلت لهم: سلام عليكم قد انتهت القصة...
احمد علي صدقي من المغرب
اشخاص هذه القصة اقتحمتهم في حدث لم يرغبوا في أن يكونوا فيه، وكلفتهم أدوارا ما أحبوها... فكادت قصتي تنتهي عند بدايتها...
هؤلاء عندما كانوا يتناولون غداءهم بمطعم شعبي وهم من اغنياء القوم، دخل عليهم ماسح احذية بصندوقه الخشبي المتهالك، يتفقد من سيناديه منهم لخدمته فيمده ببعض دريهمات يقاوم بها متطلبات يومه...
عندما تكلم فيه أحدهم التفت اليه كل القوم. ثم منهم من سعى لطرده ومنهم من أمطره وابلا من السباب ومنهم من صعقه بنظرات ازدراء سقطت عليه كقطع ثلج جمدته في مكانه... ثم التفتوا عنه وتابع كل منهم ما كان جالس من اجله في هذا الفضاء... اندهشت أنا من امر هؤلاء الزبناء في المقاهي يصبحوا كأنهم جسد واحد... يصيحون على التلفاز في وقت واحد وينظرون لمن دخل المقهى في وقت واحد..
خلتهم يشتمونني وقد اغتبتهم... تجاهلتهم وتابعت كتابتي... إلا أني، بعد هنيهة، أحسست بضيق بالمكان فخرجت الى خارج المقهى لاسترجع نفسي ثم رجعت الى مكاني...
حدق ماسح الاحدية هو الآخر بدوره في الجميع ثم تقدم نحو رف المقهى ببطء وبصره يتجول يمنة ويسرة... ناداه واحد من الزبناء بلطف. تعجب من صفة برزت من جحيم صفات ضجرته من قبل. اتجه نحو من ناداه... ناوله هذا رجله لمسح الحذاء... بعنف قال له أحد اصدقائه: يا هذا! نحن لسنا هنا لتنظيف الأحذية ولا لشم روائح دهانها أو شم عرق مثل هذا المتشرد المتسخ. نحن خرجنا لنمتع اعيننا بما هو جميل ونتذوق ما هو لذيذ وليس لنجلس قرب متسخ تزكم رائحته انوفنا...
تعجبت لأمر هذا الرجل. فقد اقحم كلمات في دوره ما كتبتها له... وتعجبت خصوصا من نكرانه لما كان عليه من قبل... فهذا الرجل الصفيق الوجه، كان هو كذلك شبه متشرد قبل أن تصل به وقاحته بدعم من أخيه المحامي الى سدة الحكم... هذا الرجل الذي ما أن تسلطن حتى استعمل نفوده فنصب على احد اعضاء عائلته و استولي على املاكه ليجد نفسه بلا تعب أحد أغنياء المدينة...
وأنا أذيع هذه الاسرار الخطيرة عنه، خلته ينظر الي من موقعه من فوق ورقتي ويترصدني مفكرا في حيلة يهاجمني بها مستعملا سلطته ونفوده ضدي... خلته رافعا علي دعوى قدح ضده فرابحها... والذي أخافني أكثر هو أن يثور علي فيترك لي هذا الدور الذي يلعبه الآن في القصة فيختل عملي وتصبح قصتي في خبر كان...سمعته يهمهم:
لماذا تحشر انفك في ما لا يعنيك ايها الراوي؟ تابع سردك لما يحصل ولا تتدخل فيما لا يعنينك... إنك لا تعرف مع من تتعامل... فانتبه لنفسك...
تجاهلته رغم خوفي منه ومن ردة فعله العنيفة وتابعت كتابة بقية القصة...
أما الذي نادى ماسح الأحذية فقد كان هو أيضا ماسح أحذية قديما... كان يعمل كمساعد طبيب في مصحة... مرض أبوه بمرض السرطان فتعب من أجله بلا فائدة... ثم مرضت أمه كذلك بالفشل الكلوي فاضطر إلى مغادرة العمل ليتكرس لخدمة والديه لأنه كان وحيدهما... كان لهم منزل بسيط، رهنه عند عمه لكي يجد ما يداوي به المريضين... لكن بعد أيام مات أبوه، فحزنت عليه الزوجة حزنا شديدا، حز في صدرها، فتبعته بغتة بلا سابق انذار... ما استطاع الولد تسديد ديونه فاستولى، عمه المراهن، على المنزل وأصبح الولد من المتشردين...أمتهن مهنة ماسح أحذية الى ان أغناه الله حلالا من إرث ذلك العم الشرس الذي كان قد شرده.. لم يكن لهذا العم احد يرثه الا هو. كان رجلا كلالة...
نبهني ماسح الأحذية بكلام همهم به: اترك كل واحد وشأنه فالله هو الرقيب... دمع قلمي من روعة ما قاله فأسقط دمعة حبر على الورقة طمست ما كتبته من قبح عن الرجل...
نشفت ما تساقط من الحبر على الورقة وتابعت... أما الثالث فهو رجل يعيش رفقة هؤلاء بما يجودون به عليه... يعيش ملتصقا بهم كقرادة، يمتص من دم هذا ومن دم ذاك أو كذبابة فوق جلد خام نتن ...
كنت أكتب قصتي وأحس أن اشخاصها ينظرون الي بنظرات ملؤها السخط و الكراهية والحقد... كانوا غير راضين بما أسرده عنهم للقراء من أسرار لا يعرفها عنهم احد إلا أنا... فكنت أخالهم سينتفضون و يقدمون استقالة جماعية من أدوارهم في القصة احتجاجا على افشائي اسرارهم للعامة... لكن تابعت كتابتي كأن شيء لم يحدث...
جلس الماسح منهمكا في عمله والكلام حوله لم ينته بعد... قال صاحب الحذاء:
مسح الأحذية ليس عيب. فهو عمل شريف... فماسح الأحذية ينال أجره بعرق جبينه. ينقد به نفسه وأهليه من الجوع. قال الذي أزعجه حضور الماسح:
يكفيك عطفا على المتشردين يا معتوه... فهؤلاء من أراذل القوم وهم من خيبوا وجه البلد... اسكت وإلا نطقت بما لا تريد سماعه. رد عليه من يهمه الأمر:
أتريد أن تقول أنني كنت أنا أيضا متشردا وماسح أحذية؟ قلها بملء فيك ولا تخجل، فأنا اعترف بأنني كنت كذلك... ولكن حمدا لله الذي أنقدني وأوصلني لما أنا فيه الآن... أجابه الخوان بعهوده ومواثيقه والمتكبر بسلطته التي يظنها مطلقة وتمكنه من ازدراء الناس وازعاجهم والإطاحة بمآل كل من قاوم ظلمه... قال مستهزئا لمخاطبه:
هل لا زلت تتقن هذه المهنة أم انستك إياها رفاهيتك؟ أجابه: بل لا زلت اتقنها كما كنت اتقنها من قبل. قال له:
وهل تستطيع أن تمسح حذائي الآن... قال : وكم تدفع؟ أجابه: إن فعلت هذا أمام هؤلاء الحاضرين الموجودين ألآن في هذا المقهى، أمنحك خمسة آلاف درهم بلا مناقشة... قال: هيا ناولني إياها وابتعد... اخرج صاحبنا المتكبر شيكا أمضاه على القدر المطلوب واستدعى كل الحاضرين للمشاهدة ثم ناوله الشيك... شمر صاحبه على دراعيه وأخذ الأدوات من عند الماسح وبدأ عمله. كان يصقل الحذاء بحركات بهلوانية وخفة ورشاقة أذهلت كل الحاضرين. وبالخصوص صاحب الأدوات الذي أخذ يضحك ويصفق ويقفز فرحا أنه وجد من خفف عنه عبئا كان يثقل كاهله و يجعله مطأطأ الرأس دائما أمام الناس... مهنته كماسح. هذه المهنة التي ينظر إليها الكل باحتقار واشمئزاز... انتهى من عمله... صفق له الحاضرون وقد أراهم جمالية عمل مسح الأحذية رغم بخسه... جر إليه الطفل ماسح الأحذية وقدمه الى أمام الحاضرين الذين كونوا حلقة حول طاولة الأحداث، و قبَّل رأسه... ناوله ثمن عمله ثم رفع يده الى الأعلى و قال له: كن شجاعا وارْضَ بعملك واتقنه يغنيك الله به... ثم تناول حقيبته... فتحها... اخرج منها قدرا من المال، ثم رفعها هي و الشيك الى اعلى وقال لماسح الأحذية: خذ هذه الأموال فهي لك، واذهب واصرفها في مشروع فقد أغناك الله... رمى الولد بأدوات مهنة لم يرض بها يوما وقد امتهنها سنين... رمى بالصندوق خارج المقهى و خرج يجري الى حيث تنتظره عائلته.. اتجهت الأنظار نحوي بعد مغادرته المقهى.. بقيت لوحدي كبؤرة لعيون المتكبر وماسح الاحذية قديما والقرادة و زبناء المقهى... نظرت الى الجميع التفتوا الى جهة التلفاز ونحو كؤوس مشروباتهم.. ولكي لا أبقى محبوسا تحت انظارهم، وضعت نقطة نهاية للقصة و رفعت قلمي وعيني عن الورقة وقلت لهم: سلام عليكم قد انتهت القصة...
احمد علي صدقي من المغرب
تعليقات
إرسال تعليق